ليلة حُمّى ونفاس- دغبوس جدّي يكشف ستر المساري
المؤلف: علي بن محمد الرباعي10.01.2025

في ربوع البادية، حيث الأصالة تعبق في كل زاوية، كان "نافر" يسترق السمع لجدته وهي تتبادل أطراف الحديث مع جارتها "دسما" عبر حجيرة تفصل بينهما. كانت الجدة تطلب شحمة لتطييب طبيخ "الدجر" الذي تعده لزوجها "الزافر"، الذي لا يعود من الوادي إلا عند سماع أذان المغرب.
لم يتمالك "نافر" نفسه، فاستغل غفلة جدته وتوجه نحو قدر يغلي بالماء، وبداخله أرغفة مستديرة تلمع كالجواهر. اختطف أكبر "دغبوس" دون أن يعلم أنه مخصص لجده "الزافر". وفي لحظات معدودة، ابتلع "نافر" ثلاث أو أربع لقم دون اكتراث بحرارتها.
عادت الجدة حاملة الشحمة، وفجأة التقت بـ "نافر" في السُدّة، ولاحظت شيئاً في فمه. حاولت جاهدة إخراج "الدغبوس" الذي اختفى بسرعة البرق، ولكن محاولاتها باءت بالفشل. لم تجد الجدة حيلة سوى أن تصب عليه جام غضبها، متمنية أن يتحول ما أكله إلى سم قاتل يملأ ليلته هماً وغماً.
من ركن مظلم، ردت أم "نافر" الطريحة "دخيلتك يا عمه لا تدعين عليه، بارضّع بنتي وأقوم أسوّي لعمي بدله". فأجابت الجدة "لا ترضعينها وانتي محمومة". نهضت الأم على الفور، وعجنت وطرحت دغبوساً أكبر حجماً، وعينها على قدر الدُّجر، ولسانها يلهج بالملامة لزوجة ابنها، كونها لا تعلم إلى أين وجه زوجها بشاحنته منذ شهر، وولدت وهو غايب، والزوجة المرتفعة حرارة جسمها تتحاشى الصدام مع عمتها، وتسايرها في نقدها لابنها سواق (التش تش) كما تطلق على شاحنته.
انتقلت الجدة في آخر ساعة من عصريّة رمضان للحديث عن "نافر" ولم تترك شاردة ولا واردة إلا ذكرتها، ومنها أنه خلط كحلها بفلفل أسود بغى يغدي بشوفها يكنّها ذلحين على شون، ودسّ فأر ميّت في مدارتها واروح بسحاريتها، وآخرتها يسطا على دغبوس جدّه، اللي ما يمزى لا من الله، ولا من خلقه، ولكي تحمّل أمه مسؤولية الصلافة، قالت بجرأة «الحُرّة إذا قرِب منها سرّاي الليل تسمّي بالرحمن».
كان البيت عبارة عن غرفة طوليّة، يطلقون عليها الشقيق، وموزّعة بطريقة تكاملية؛ فالركن الداخلي خصصوه طيلة الشتاء للبقرة، كي لا يعجى حسيلها في السفل تحتها من البرد، وبالجهة المقابلة كومة حطب عامي، يبيت فوقها الديك، وتحتها يبيّض الدجاج ليأمن القطط، وفي الوسط ملّة مُربّعة تقابلها في السقف كُترة لتصريف الداخنة، وثلاث ربايط حريّة، ينوي الزافر يهديها لربي يوم عيد الضحيّة، تجول في البيت من الباب إلى عند البقرة، ورصّ من الجريد يفصل عُليّة الابن الوحيد (أبو نافر) لا يزيد عن مترين في ثلاثة.
عاد "الزافر" إلى البيت، وألقى التحية على زوجة ابنه، وسألها عن صحة المولودة الجديدة. خلع حزامه وعلقه، وأخذ المقصب الذي كان يستخدمه لتقطيع مزرع الذرة، وعلقه في وتد مغروز في الجدار. ثم تناول الإبريق وتوجه للوضوء. في طريقه، التقى بحفيده "نافر" الذي كان يتدلى من طرف الجناح ويبكي. سأله "وشبك يا المطيور تعصّر عيونك؟"، فأجاب "جدتي خنقتني". استغرب الجد وسأله "هويه تخنقك؟"، فرد "أكلتْ حشيّة دغبوسك، وتبغي تحشّها فيّه". ضحك الجد وقال "عساه فداك، جدتك صوامه قوامه، ما هيب دواجه يا فرخ الدجاجة، وبدل الدغبوس دغبوس، لكن منين لنا نافر بدل النافر".
طلب من حفيده أن يلمع قزازة الإتريك بالرماد والجُعال، ويشحنه، ويوشيه برويد، لا تنكث الفتيلة، ولا يعلّقه؛ وعاد من المسيد، وتحلّقوا حول السفرة يفطرون، ونافر يتارع، علّقت الجدة: يترع المتخمة (جرو رمضان) شنبه محمحم، وضرب بالدغبوس فوق التين، والتحق تحريقة السمن بالطحين والثفا ولو ما أخرجت المروة بلعها معها، تبسّم (الزافر) وضرب بكفه على ظهر حفيده، وقال "يكبر وتسرّك علومه"، فيما كانت (أمّه) تتغصّب بما بين يديها كي تدرّ حليباً لرضيعتها، برغم تعرق جسمها من الحُمّى.
وكعادة "نافر" في طرح الأسئلة، خصوصا عندما شاف الغنم تعلو بعضها؛ فقال "يا جدّ الطليان هذولا أخوان؟" ردّ عليه "الله الله"، فأضاف "من العود والناقة؟"، فسخّن الشايب، وعلّق "تحسبني أنا اللي روّحتهم على بعض؟" فقال "ليش يتراكبون وهم أخوان؟" أجابه "بهايم ما معها عقول"، فسأله "طيب.. ومن وين يولدون؟"، فأجابه "من تحت السُّبلة"؛ فنظر نافر إلى أمّه، وحدّ الجدّ النظرة فيه، واضعاً سبابته على شفتيه؛ عرف إنه بيطرح سؤالٍ على أمه، فقال (الزافر) كان من هروجك الشامزة، ورح لعمّك (طفران) قل بنصلّي العشا ونتروح، ونجيهم أنا وانت وجدتك نسمر معهم ساعة، ونتسمع في الرادي، فتساءل "وأُمي نخليها لحالها؟"، قال الجدّ "ما عندها إلا الرحمن تحسبه بيأكلها البعوي؟!".
حمل الإتريك على كتفه، والجدة وراه؛ محكمة قبضتها على حبات البُنّ التي صرّتها في طرف حوكتها، والجد وراهم، طوّلوا في سمرتهم؛ وعادوا للمنزل، وما وجدوا أم نافر ولا مولودتها، فأقسم نافر إنه سمع الكلاب تنبح لها شيء، وظنّوا أن الحُمّى داجت برأس (النفاس) وسرت ما تميّز الليل من النهار، حاولت الجدّة فيه يسكت، عشان تتحسس للصوت، فردّ عليها "كلها من تحت رأسك يا كهلة عثبر، تحبين المساري، خليتينا نفلح ونخلّي أُمّي لحالها، وين نغدي ندوّر لها في أنصاص الليالي، الله لا يذكرك إنتي ومساريك بالخير".
عمدته جدته وهو يعلّق الاتريك في حماطة الساحة، ودغولته في التربان، وزبل الدجاج، وانفجر خشمه بالدمّ، والجدّ قعد على خواشعه، مردداً "يا الله مقسوم خير في ليلة من ليالي الخير"، وشعر أن رأسه يحوم والدار تلفّ به؛ فهدأ نافر، وطلب منه ينسدح على ظهره لين يكفّ الدمّ، ووسّد له بعمامته؛ وعندما اقترب منه قال "كم علّمتك لكن ما تسمع؛ بعض الخلق، ما يسمّي لين يصطك ويدمّي".
وهم في شيل وحطّ، ونافر عازم يسري لأخواله، في قرية مجاورة، يتخبّر عن والدته؛ يمكن تكون عندهم، لمح فيه الشيبة وقال "يابو طيرة، نغدي نخرع أخوالك ونفضح أنفسنا، نقول ضيّعنا مرتنا؟"، كأنهم سمعوا صوت شاحنة مقبلة من طرف القرية، فمغصت الزافر وكهلته بطونهم؛ وش يقولون لولدهم العائد من سفر؛ عندما ينشدهم عن حرمته؟ وما به بطأ إلا وأبو نافر طالع من الدرجة بالكشاف، وبين يديه مولودته؛ ومن خلفه زوجته وهي بعافية كل عافية.
في إحدى القرى الوادعة، حيث عبق التاريخ يفوح في كل زاوية، كان "نافر" يصغي خلسة إلى حديث جدته وجارتها "دسما" عبر جدار رقيق يفصل بينهما. كانت الجدة تطلب ودًا شحمة لتُضفي نكهة مميزة على طبيخ "الدجر" الذي تعده خصيصًا لزوجها "الزافر"، الذي اعتاد العودة من عمله في الوادي مع سماع أولى نفحات أذان المغرب.
لم يستطع "نافر" مقاومة فضوله، فاستغل انشغال جدَّته وتسلل نحو قدر مملوء بماء يغلي، وبداخله أرغفة دائرية تشع كحبات اللؤلؤ. اختطف أكبر قطعة "دغبوس"، دون أن يدرك أنها كانت مخصصة لجده "الزافر". وفي غضون لحظات، التهم "نافر" أربع أو خمس لُقمٍ دون أن يكترث بحرارتها الشديدة.
ما إن عادت الجدة وبيدها الشحمة، حتى تفاجأت بوجود "نافر" في طريقها، ولاحظت شيئًا غريبًا في فمه. حاولت جاهدة أن تستخرج "الدغبوس" الذي اختفى في لمح البصر، ولكن دون جدوى. لم تجد الجدة وسيلة للتعبير عن غضبها سوى أن تدعو عليه، وتتمنى أن يتحول ما أكله إلى سم زعاف يملأ ليلته أرقًا وغمًا.
من زاوية الغرفة المظلمة، ردت أم "نافر" المريضة بصوت خافت "أستحلفك بالله يا عمتي، لا تدعين عليه، سأرضع ابنتي وأعدُّ لعمي وجبة بديلة". لكن الجدة ردت بحدة "لا ترضعينها وأنت محمومة". نهضت الأم رغم ضعفها، وعجنت وطهت قطعة "دغبوس" أكبر من سابقتها، وعيناها تراقب قدر الدُّجر، ولسانها لا يكف عن لوم زوجة ابنها لعدم علمها بوجهة زوجها الذي سافر بشاحنته منذ شهر ولم يعد، وولدت وهو غائب، بينما الزوجة تعاني من ارتفاع درجة حرارتها وتتحاشى الاصطدام بعمتها، وتتقبل بصمت نقدها لزوجها سائق (التش تش) كما تطلق على شاحنته.
أسهبت الجدة في الحديث عن شقاوات "نافر" في الساعة الأخيرة من نهار رمضان، فلم تترك صغيرة ولا كبيرة إلا وأشارت إليها، بدءًا بخلطه كحلها بالفلفل الأسود ليُفقدها بصرها، ووصولًا إلى دس فأر ميت في وعاء السمن ليفسد طعامها، وأخيرًا تجرؤه على سرقة "دغبوس" جده، الذي لا يقدره إلا الله وخلقه. وبلهجة قاسية، حمّلت الجدة الأم مسؤولية تصرفات ابنها الوقحة، قائلة "الحُرّة إذا قرِب منها سرّاي الليل تسمّي بالرحمن".
كان البيت عبارة عن غرفة طويلة، يطلقون عليها اسم "الشقيق"، وقد تم توزيعها بطريقة عملية ومنظمة؛ فقد خصص الركن الداخلي للبقرة طوال فصل الشتاء، لحماية صغيرها من البرد القارس، وفي الجهة المقابلة كانت تتراكم أكوام الحطب، التي يعلوها الديك وتحتها تبيض الدجاجات لتأمينها من القطط، وفي المنتصف توجد "ملّة" مربعة يقابلها في السقف فتحة لخروج الدخان، وثلاث نعجات حرية ينوي "الزافر" التضحية بها في عيد الأضحى، تتجول في البيت بحرية من الباب إلى جوار البقرة، وهناك حاجز من الجريد يفصل "عُلّية" الابن الوحيد (أبو نافر) لا تتجاوز مساحتها مترين في ثلاثة.
عاد "الزافر" إلى المنزل، وألقى السلام على زوجة ابنه، واستفسر عن صحة المولودة الجديدة. فحل حزامه وعلقه، ثم تناول المقصب الذي يستخدمه في تقطيع الذرة، وثبته في وتد مغروز في الجدار. بعد ذلك، أخذ الإبريق وتوجه للوضوء، وفي طريقه التقى بحفيده "نافر" الذي كان يتدلى من طرف الجناح ويبكي بحرقة. سأله "ما بك يا صغيري؟ لماذا تذرف الدموع؟"، فأجاب "جدتي خنقتني". تعجب الجد وسأله "ولماذا خنقتك؟"، فرد "أكلت قطعة من خبزك، وهي تريد أن تعيدها لي بالقوة". ضحك الجد وقال "فداك كل شيء، جدتك امرأة صالحة، لا تقصد الإساءة يا صغير الدجاجة، وسأعوضك بقطعة أخرى"، ثم أضاف مبتسمًا "ولكن من أين لنا بطفل آخر مثلك يا "نافر"".
طلب منه أن يلمع زجاج المصباح بالرماد والروث، ويملأه بالوقود، ويشعل الفتيل برفق، ثم يعلقه في مكانه المعتاد. بعد ذلك، عاد من المسجد، وتجمعوا حول المائدة لتناول وجبة الإفطار، وكان "نافر" يتناول الطعام بشراهة، فعلقت الجدة قائلة: يترع المتخمة (جرو رمضان) شنبه محمحم، وضرب بالدغبوس فوق التين، والتحق تحريقة السمن بالطحين والثفا ولو ما أخرجت المروة بلعها معها، فابتسم "الزافر" وربت على ظهر حفيده، وقال "سيكبر ويسعدكم بأخباره"، بينما كانت الأم تحاول جاهدة أن ترضع وليدتها، رغم ارتفاع حرارة جسمها وتعرقها الشديد.
وكعادته، بدأ "نافر" في طرح الأسئلة المحرجة، خاصة عندما رأى الأغنام تعتلي بعضها البعض، فسأل جده "يا جدي، هل هذه الخراف إخوة؟"، فأجابه الجد بتعجب "الله الله"، فسأله "هل هؤلاء الأطفال إخوة من العود وال الناقة؟"، فغضب الجد وقال متهكمًا "هل تظن أنني أنا من دفعتهم لبعض؟"، فسأل "ولماذا يتراكبون وهم إخوة؟"، فأجابه "إنهم حيوانات لا يملكون عقولًا"، فسأل "حسنًا، ومن أين يولدون؟"، فأجابه "من تحت السُّبلة"، فنظر نافر إلى أمه بعيون متسائلة، فنظر الجد إليه محذرًا، واضعًا سبابته على شفتيه، مدركًا أنه سيطرح سؤالًا محرجًا على أمه، فقال "كفى هذه الأسئلة يا ولد، اذهب إلى عمك (طفران) وأخبره أننا سنصلي العشاء ثم نعود لزيارتهم، لنجلس معهم قليلًا ونستمع إلى الراديو"، فسأل "وهل نترك أمي وحدها؟"، فأجابه الجد "ليس لديها إلا الله، هل تظن أن الغولة ستأكلها؟!".
حمل المصباح على كتفه، وتبعته الجدة وهي تمسك بإحكام بصرة البن التي وضعتها في طرف عباءتها، وخلفهم الجد. أطالوا السهرة عند الجيران، وعندما عادوا إلى المنزل، لم يجدوا أم نافر ولا مولودتها، فأقسم نافر أنه سمع الكلاب تنبح باتجاه شيء، وظنوا أن الحُمّى داجت برأس (النفاس) وسرت ما تميّز الليل من النهار، ثم حاولت الجدّة إسكاته لكي تتمكن من سماع أي صوت، فرد عليها "إنه كله بسببك يا عجوز شمطاء، تحبين السهر، تركتنا نذهب وتركنا أمي وحدها، أين سنذهب للبحث عنها في منتصف الليل؟، الله لا يذكرك أنت وسهراتك بالخير".
عمدته جدته وهو يعلّق الاتريك في حماطة الساحة، ودخولته في التربان، وزبل الدجاج، وانفجر خشمه بالدمّ، والجدّ قعد على خواشعه، مردداً "يا الله مقسوم خير في ليلة من ليالي الخير"، وشعر أن رأسه يحوم والدار تلفّ به؛ فهدأ نافر، وطلب منه ينسدح على ظهره لين يكفّ الدمّ، ووسّد له بعمامته؛ وعندما اقترب منه قال "كم علّمتك لكن ما تسمع؛ بعض الخلق، ما يسمّي لين يصطك ويدمّي".
وهم في شيل وحطّ، ونافر عازم يسري لأخواله، في قرية مجاورة، يتخبّر عن والدته؛ يمكن تكون عندهم، لمح فيه الشيبة وقال "يابو طيرة، نغدي نخرع أخوالك ونفضح أنفسنا، نقول ضيّعنا مرتنا؟"، كأنهم سمعوا صوت شاحنة مقبلة من طرف القرية، فمغصت الزافر وكهلته بطونهم؛ وش يقولون لولدهم العائد من سفر؛ عندما ينشدهم عن حرمته؟ وما به بطأ إلا وأبو نافر طالع من الدرجة بالكشاف، وبين يديه مولودته؛ ومن خلفه زوجته وهي بعافية كل عافية.